موسم الهجرة إلى الشمال
تبدأ الرواية بعودة طالب سوداني (الراوي) من لندن بعد إكمال دراسته التي استغرقت سبع سنوات إلى بلدته الواقعة على ضفاف النيل فيستقبله أهله وأهل القرية الذي عرفهم والذي لم يعرفهم، وبينهم ((مصطفى سعيد)) ذلك الوجه الجميل لرجل لم يعرفه الراوي و عند السؤال عنه عرف الراوي انه رجل من الخرطوم جاء إلى القرية منذ خمس سنوات و اشترى أرضاً عمل بها ثم تزوج بإحدى بنات القرية و انجب منها طفلين , و اجمع أهل القرية على انه رجل صالح و طيب .. لكنه غامض في نفس الوقت..
دعي الراوي ذات مساء إلى مجلس شراب في بيت صديقه منذ الطفولة ( محجوب )، وكان مصطفى سعيد حاضرا، وبعد أن شربا قليلاً، بدأ مصطفى سعيد وقد انتشى بطعم الخمر يهذي ويردد شعراً إنكليزياً بلهجة متقنة، وهو ذاك الذي لا يتكلم إلا إذا طلب منه،هذا الأمر استثار فضول و غضب الراوي الذي لم يظن أبدا سماع هكذا شعر في قرية كقريته، فصرخ به وأراد أن يعرف سر غموض ذلك الرجل، فوضع مصطفى سعيد الكأس وخرج ..
دعاه مصطفى سعيد في اليوم التالي ليخبره بكل شيء .. قصته، حياته، ، رحلته باتجاه الشمال،مغامراته العاطفية الأقرب إلى المرض ، تسببه بانتحار ثلاث نساء انكليزيات , و قتل زوجته الانكليزية ايضاً ....السجن، الضياع ..
فمصطفى سعيد هذا هو شخصية غريبة كان عبقرياً و ذو شخصية مستقلة و جامدة منذ صغره , اختصر سنواته الدراسية بسبب عبقريته اللا حدود لها مما مهد له ترك السودان و الرحيل شمالا باتجاه القاهرة , و هناك اكتشف عالماً آخر اوسع و اعمق , و من القاهرة كانت رحلته الاكثر اشتمالاً با تجاه عاصمة العلم و الاستعمار بآن واحد ... لندن
يلمع نجمه في سماء لندن و يصبح أستاذاً محاضرا ًفي جامعاتها و هناك تحدث الأحداث الأكثر غرابة و التي هي لب الحكاية
رجل أسمر يمتزج خط الإستواء في دمه باللبن العربي .. رجل جاء من حيث حيث الأساطير و مياه النيل و حكاياه الكثيرة
هذا الرجل ( مصطفى سعيد) و بكل تلك المواصفات يجتذب نساء بريطانيا الباحثات عن المغامرة في رجل إفريقي استطاع بحكاياته عن الغابة و الحيوانات الإفريقية و بأسلوب اجتذب تلك النساء إلى ما سماه الجرثومة الممرضة و التي قصد فيها سحر الشرق
أصبحت تلك النساء اللواتي تنشقن البخور و العطور العربية في غرفة نومه, أصبحن مريضات بهذا الرجل ذو السحر المميت.
فكانت النتيجة انتحار ثلاث منهن , واحدة فقط تحدته لمدة ثلاث سنوات و هو يطاردها بكل جاذبيته و سحره , و حين ملت من مطاردته قررت الزواج به هذه المرأة ( جين مورس ) التي اشعلته و دمرته بآن واحد و حطمت الكثير من كبريائه و جربت معه لعبة الخيانة و التحدي فما كان منه إلا أن قتلها ...
إنها حكاية مصطفى سعيد رجل أسطوري رواها للراوي و بعد مدة قصيرة و خلال فيضان نهر النيل ..... اختفى مصطفى سعيد و كأنه حلم كان .. ثم مضى تاركاً زوجة أعلنت الحداد كباقي اهالي القرية لاعتقادهم انه غرق خلال الفيضان و ولدين صغيرين و ترك رسالة يوصي بها الراوي بأن يكون ولي امر زوجته و ولديه و أن يرعاهما و يمنعهما من السفر إن هما فكرا بذلك حين يكبران ..
يرحل الرواي إلى الخرطوم ليعاود عمله الذي كان قد بدأه هناك و للعيش مع زوجته و اولاده هناك تاركا تلك القرية التي يعود إليها بين الفينة و الأخرى لزيارة اهله و السؤال عن شؤون زوجة مصطفى سعيد و ولديه.
زوجة مصطفى ( حسنة بنت محمود ) امراة شابة جميلة قررت عدم الزواج بعد مصطفى و لكن القرية لا تدعها و شأنها فهي محط طمع بعض الرجال الذين يبدلون نساؤهم كما يبدلون أي شيء في منزلهم و خاصة (ود الريس ) الرجل العجوز المزواج الذي رفضته حسنة و لكنه ( كرمز للذكورة الشرقية ) يأبى ان يتقبل فكرة ان ترفضة امرأة و خاصة امرأة أرملة كـ ( حسنة ) فيصر على الزواج بها و يحصل على موافقة والدها.
حسنة الأرملة التي نجدها ترتاح للراوي تطلب من جده في غيابه ان يطلب منه أن يعقد قرانه عليها و لو شكلياً حتى تتخلص من فكرة الزواج من ( ود الريس ) و لكن الجد يرفض هذه الفكرة و يعتبرها وقاحة منها.
كل هذه الاحداث تحدث و الرواي غائب في الخرطوم.
و هنا تقع المأساة حيث يجبر والد حسنة ابنته بالزواج من ود الريس لكنها ترفضه كزوج و تمنعه من الاقتراب منها و لمسها , لكن ود الريس و بعد اسبوعين من الصبر يهاجمها بعنف و يغتصبها بوحشية , فتدافع بنت محمود عن نفسها , و تقتل زوجها العجوز , ثم تقتل نفسها بطريقة يصورها الكاتب بمأساوية رهيبة
يعود الراوي على آثر هذه الحادثة إلى قريته ليحمل نفسه جزءاً كبيراً من المسؤولية في هذا الحادث الذي هز أركان القرية خاصة ان صديق طفولته ( محجوب ) كان قد طلب منه ان يتزوجها ( حسنة بنت محمود ) و لكن لم يأخذ الامر محمل الجد بل اعتبر طلبه نكتة ضحك لها.
و ما يحدث أن الراوي يكتشف بعد موت حسنة انه احبها مما يزيد من شقائه بموتها.
ينقلب الراوي على نفسه ... على قريته ... على مصطفى سعيد و ذكرياته. حتى انه يدخل غرفة مصطفى التي كانت بمثابة غرفة سرية له لا يدخلها غيره . وليكمل تجميع باقي خيوط قصته في انكلترا و رحلته نحو الشمال , و يقرر بداية الامر ان يحرق كل محتوياتها التي يشعر أن مصطفى قد أبقى مفتاح هذه الغرفة معه ليخرج منها صورة متكاملة تكون في صالحه . وانه يريد أن يكتشف كأثر تاريخي له قيمته.
تنتهي الرواية في لحظة انعتاق من الذات يقوم بها الراوي في لحظة يندمج فيها كإنسان عارٍ مع نهر النيل الذي هو أصل الحكاية كلها.
هذه و بإختصار أحداث هذه الرواية التي اعتبرها معجزة أدبية في الأدب العربي لا بل الأدب العالمي ككل و هي بالتاكيد رواية صالحة لكل زمان ومكان.
الأجمل في الرواية هو اسلوب الطيب صالح، يأخذك بالزمن من مرحلة إلى أخرى بكل سهولة وإتقان، فتارةً تجد نفسك في القرية بكل تفاصيل الحياة القروية ، وتارة تجدك في إحدى أرقى الأماكن اللندنية مع مصطفى سعيد. يكتب الطيب صالح وكأنه يملك كرة سحرية تتحكم بالزمن. الحوارات بين الشخصيات دقيقة ومعبرة ولا تجد فيها تكلف، فأهل القرية كما يقول الطيب الصالح إذا غضب رجلا على الآخر يقول له :"يا بن الكلب"، وهكذا تجد الحوارات منطقية وواقعية.
الرواية تقع في 171 صفحة من القطع المتوسط و هي من إصدارات دار العودة في بيروت , و رغم قلة عدد صفحاتها إلا انك تجد نفسك امام عالم مترام الأطراف لا يحده عدد صفحات ... و لا صحراء ...و لا أي شيء آخر
أنصحكم بقراءة هذه الرواية و اختبار الجماليات الكثيرة بأدب العظيم " الطيب الصالح "
و سأقوم تباعاً بإضافة مقاطع أعجبتني من الرواية للمساعدة في التعمق اكثر فيها
تقبلوا تحياتي ....