جدار الأمانة
نظر فهيم إلى مؤشر الوقود في سيارته فلاحظ الإشارة الحمراء تضيء وتخفت فانتابه القلق من احتمال نفاد ما تبقى لديه من بنزين قبل وصوله إلى المحطة القادمة. لقد لام نفسه على إهماله بالتزود من المحطة التي مر عليها قبل ساعة. بيد أنه اعتاد التزود من المحطة القادمة التي سيتناول فيها طعامه ويخلد إلى الراحة قبل استكمال مسيرته الطويلة.
كانت الشمس تسطع بشدة بينما سيارته تنهب الأرض بلا هوادة فسرح خياله إلى حيث هذا الكائن البديع الذي يقطع المسافات ولا يحتاج سوى إلى الوقود والصيانة الدورية.
لقد قام بصيانة سيارته قبل انطلاق رحلته فعلى الرغم من حداثتها بيد أن أي خلل ولو كان بسيطاً سيؤدي لا محالة إلى بعض العواقب ومنها توقف سيارته في هذا الخلاء الوسيع.
فكر فهيم بتقنيات العصر التي تحاول سد أي فجوة في أي اختراع لإخراجه إلى درجة أقرب للكمال وقد ساعد الحاسوب المصممين على الحساب الدقيق واستجلاء أجمل التصميمات لخدمة المستهلكين.
وبينما هو سارح بفكره شاهد عن بعد محطة البنزين واستراحتها فالتقط أنفاسه وما أن وصل حتى زود سيارته بالوقود الكافي ثم ركنها في الموقف المخصص ودخل ليتناول طعامه وليخلد إلى الراحة.
بعد مرور ساعتين كان فهيم خلف مقود سيارته يعاود من جديد رحلته الفكرية التي بدأها وقد وصل به التفكير إلى الغاية من قيام الإنسان بتطوير سبل عيشه من خلال المخترعات الكثيرة التي تقف وراءها ملايين من العقول البشرية.
بيد أن وراء السعي الإنساني هذا غايات أخرى تتمثل في الكسب وبناء الثروات وزيادة النفوذ الأمر الذي قد يقود إلى التنافس والصراعات والحروب. كما أن الكثير من المخترعات البشرية لا تخلو من الضرر للحياة الطبيعية لأنها لا تملك العلم الكامل بل مبنية على التجربة بين الصح والخطأ.
وميزة المنتجات البشرية أنها لا تخرج من مكان واحد بل هناك ملايين الجهات التي تقوم بالاختراع والإنتاج وتتنافس فيما بينها لذا نرى اسم كل منها على منتجها بعكس المخلوقات في الطبيعة التي لا يوجد اسم صانعها على أي منها!
عاد فهيم وتمعن في الحياة الطبيعية ففكر كيف أن كل مخلوق فيها يتكامل مع المخلوق الذي يعيش إلى جانبه وهو لا يحيد عن وظيفته أو يتقاعس عنها أبداً. وأن جميع تلك المخلوقات لا تلوث البيئة بل أن حياتها ومماتها يخدم في النهاية الحياة البيئية بل ويمثل الداعم الأساسي لوجودها.
أما سيارته وإن كانت توفر له الراحة وسرعة الوصول للأماكن البعيدة ولصانعيها وبائعيها الربح الوفير لكن ثاني أكسيد الكربون التي تقوم بنفثه في الهواء من خلال عوادمها يضر كثيراً بالحياة البيئية حيث لم يخترع الإنسان آلة أخرى تتكامل مع السيارة كي تقوم بهضم هذا الغاز السام وتحويله إلى عنصر مفيد كما هو الأمر في الحياة الطبيعية حيث نجد مخلوقات تقوم بهضم المستخرجات المختلفة كي تصبح سماداً مفيداً للتربة وعنصراً أساسياً لخصوبتها.
كانت سيارة فهيم تنساب بين حقول القمح الذهبية التي تتمايل سنابلها مع اتجاهات الرياح المختلفة بينما قوافل الطيور تسابق الرياح للبحث عن مورد رزق تحت أشعة الشمس الذهبية التي كانت تبعث بضوئها ودفئها إلى جميع المخلوقات لنرى صورة بهية عن تكامل الأرض والسماء وما بينهما خدمة لدورة الحياة ونفحات هوائها المنعشة.
عاد فهيم إلى حيث أصغر مخلوق في الطبيعة وأكبره ووجد أنه لا يوجد مخلوق يريد السيطرة على المخلوق الآخر أو يحاول إفنائه لأن طبيعته الفطرية تدرك أن إفناء المخلوق الآخر يعني فقدان حلقة من سلسلة دورة الحياة المتكاملة وهي ضربة لابد أن تناله مهما طال الزمان.
نعم هناك صراع في الطبيعة من أجل لقمة العيش والبقاء لكنه ليس صراعاً من أجل الهيمنة أو الإفناء بل لا يوجد جنس ضعيف وجنس قوي بالطبيعة فلو كان الأمر كذلك لهيمنت كواسر الطيور في السماء ولما بقي العصفور الصغير أو الحمام وما شابهها من الطيور.
وكذلك في اليابسة فالفيل لم ولن يهيمن ما دام التوازن الطبيعي الدقيق موجوداً وكذلك وجود الأسد مرهون بوجود الغزال ووجبات غذائه الأخرى لكن وجود الأسد سينتهي إذا تم القضاء على المخلوقات التي يتزود في غذائه منها.
نحن لا نرى صراعاً بين القوي والضعيف لأنه لا يوجد قوي وضعيف في الطبيعة بل تكامل ليس إلا. فمثلما يفترس التمساح المخلوقات التي يتغذى منها تقوم بعض الطيور والزواحف بالتغذية من بيوض وصغار التماسيح من خلال عملية توازن دقيق لا تسمح بزيادة نسل هذا المخلوق الكاسر عن الحد الطبيعي حفاظاً على توازن الطبيعة الدقيق.
وكذلك الأمر في البحار والمحيطات فلا تزال الأسماك الصغيرة موجودة منذ ملايين السنين بجوار الأسماك المفترسة كقرش البحر والحوت القاتل. كما أن الحيتان الضخمة تتغذى على بيوض الكثير من الأسماك ولولا ذلك لزاد نسل تلك الأسماك ولحصل اختلال في الميزان.
كانت عربة فهيم تسير بهدوء والنسمات العليلة تنعشه وهو سعيد وفخور بهذه المركبة حيث أن صانعي السيارات ومختلف المنتجات لا يقومون بعرض منتجاتهم إلا بعد الانتهاء من تصنيعها كاملاً لأن أحداً لن يعير انتباهاً لمنتج ناقص غير متكامل.
وكذلك الأمر في الطبيعة .. هل يوجد جنس غير متكامل؟! تساءل فهيم ثم أجاب نفسه مناجياً " كلا.. كل جنس كامل الأعضاء والحواس التي تخدم وظيفته في دورته الحياتية بل ويعتبر آية جمالية في الخلق والتكوين وصورة لدوره في سلسلة الحياة".
وفي المقابل لا نجد في المنتجات البشرية كمال الصنع بل هي في تطور مستمر سواء بالشكل أو بالمضمون والوظائف كما أنها لا تتكامل مع المنتجات الأخرى بالشكل الصحيح نتيجة لعدم وصولها للكمال ولعدم وجود برنامج متكامل لجميع منتجات البشر كتلك الموجودة في الطبيعة.
كما أن التكامل في الطبيعة هو لمصلحة جميع المخلوقات دون استثناء ولا يوجد تنافس بسبب وحدانية الصانع أما مصنوعات البشر فتميل إلى التنافس الشديد لكثرة المنتجين وتهدف للكسب المادي ولو كان فاحشاً وعلى حساب الطبيعة والناس معاً.
ثم تساءل فهيم عن طبيعة هذا المخلوق المسمى إنسان!!
هل يدخل ضمن دورة الحياة الطبيعية، أم أنه خارج نطاقها؟!
وبماذا يتفرد الإنسان عن باقي المخلوقات؟!
يرى فهيم أن الإجابة عن هذين السؤالين تكمن في النظر إلى ما يملكه هذا المخلوق من صفات وقدرات.
إنه يملك العقل والإرادة وحرية التصرف والاختيار.
كما أنه أكمل مخلوق أرضي.. فإن كانت للصقر عينان أكثر حدة من الإنسان بيد أن للأخير عقل تمكن بواسطته من سبر أعماق الفضاء والمحيطات.
أما سمعه فمن خلال الأجهزة التي قام اختراعها يستطيع التقاط أدق الأصوات في الأرض أو الآتية من الفضاء.
وهو لا يملك قوة حمل خرطوم الفيل لكن آلاته تستطيع انتشال أثقل المواد ورفعها لأعلى المسافات.
وقدميه ليستا أسرع من أرجل الفهد لكن عرباته وسيارته هذه لا يسابقها أي مخلوق أرضي.
وهو لا يملك جناحي النسر أو الصقر لكن طائراته النفاثة تستطيع اختراق جدار الصوت ومركباته الفضائية السقف الغازي للأرض.
أما جلد جسمه فليس سميكاً كجلد وحيد القرن لكن ملابسه الواقية تستطيع حمايته من أشد طلقات الرصاص نفاذاً.
كما أنه أكثر المخلوقات جمالاً وأكثرها هيبة ووقاراً.
وهو صاحب الفكر الفريد والبديع والصوت الجميل.
فلننظر إلى قدراته الجسمانية لنرى كيف أنها تخدم آلاف الحركات الفنية والرياضية بدرجة الكمال.
أما أصابعه وأنامله فهي صاحبة المصنوعات والرسومات والمجسمات الفنية وأجمل الألحان وما أنتجه قلمه البديع من روائع الفكر والأدب.
لقد وضع الخالق تحدياً بأن خلق الإنسان على أحسن تقويم.. إذن فليحاول المتشككون أن يصوروا هذا المخلوق بشكل أجمل وأكمل!
تطور العلوم والتقنيات جعلنا ندرك عظمة كل مخلوق أرضي من خلال تكوين أدق لبنة فيه وهي الخلية الحية. فهذه الخلية التي لا نراها بالعين المجردة تحتوي على الشفرات الوراثية التي تنقل خصائص كل جنس إلى المولود الجديد. وهي الضامن الوحيد لنوع كل مخلوق حفاظاً عليه من التشوه الذي قد يقضي على بقائه.
قدرات الخلية الحية فوق التصور فهي تستطيع نسخ كمية من المعلومات تقدر بملايين الصفحات في دقائق قليلة.
أما التكامل في الخلية فتام وهي تنقسم وتتكامل مع باقي الخلايا مهما اختلفت وفق نظام كامل يظهر وجود مخطط واحد كامل لا يحيد عن هدفه.
يرى فهيم أن جهاز الحاسوب قرب الفهم لما يقوم به جسم الإنسان وأي مخلوق آخر. فنحن نعلم أن الحاسوب يعمل تماماً وفق برامج تقوم بإنتاجها عقول المصممين والمبرمجين وأنها تتكامل مع بعضها البعض للوصول إلى غاية معينة.
ونفس الأمر لوظائف الخلايا المختلفة التي يتكون منها الإنسان ومخلوقات الأرض من نبات وحيوان. فهي تعمل وفق برامج أشد عظمة من برامج الحاسوب لخدمة غايات هي دوام المخلوق وأدائه لوظائفه الحياتية.
لهذا الأمر هل يستطيع أحد أن يدعي أن برامج الحاسوب البدائية مقارنة مع برامج المخلوقات الأرضية قد أتت هكذا من لا شيء وأنها نتيجة للصدفة أو أنها تطورت شيئاً فشيئاً؟
بالطبع لن يدعي أحد هذا.. إذن لماذا يدعي البعض أن المخلوقات الأرضية قد جاءت عن طريق الصدفة أو أنها تطورت شيئاً فشيئاً؟!
هل تستطيع تريليونات لا نهاية لها من الصدف أن تجتمع معاً بالصدفة لخلق هذا الكون البديع وهذه الأرض بمخلوقاتها الكثيرة مع كل هذا التكامل والتناسق 100%؟!
ثم أين هي المخلوقات التي لم يكتمل تكوينها بعد؟!
هل هناك حصان بثلاثة أرجل أو فيل بلا خرطوم أو وحيد قرن بلا معدة أو حتى فأر بلا فكين وأسنان أو أذن وعين واحدة.. الخ الخ؟
إذا كانت هذه المخلوقات هي في عملية تطور فكيف نفسر وجود الجينات الوراثية وحبال الكروموزم التي تحملها؟!
يدعي البعض أن الله قد أنشأ المخلوقات بهذه الطريقة الطويلة أي أنه ليس خلقاً.. إذن نفس السؤال السابق يطرح نفسه هنا.
ثم هل يدعي الله أن المخلوقات قد جاءت بهذا الشكل؟
كلا بل كل مخلوق جاء من زوجين إثنين وخلقاً والخلق يعني أن لا يأتي ناقصاً بل كاملاً لأنه يحمل صفات المخلوق تماماً من أجل وظائفه الحياتية المتكاملة.
هل يمكن أن نتصور كيف يكون خلق الإنسان تدريجياً؟
إذا نظرنا إلى معجزة التناسل عند البشر وباقي المخلوقات سواء عن طريق الولادة أو وضع البيض لرأينا استحالة أن يبقى مخلوق ما على الحياة لو لم يكن خلقه كاملاً ووظائفه التناسلية تامة منذ البداية .. وهذا شيء لا يمكن حتى مناقشته بشكل مخبري.
لا يدري فهيم كم عدد الكيلومترات التي قطعها وهو يفكر في هذه المسألة.. بيد أنه وصل إلى نتيجة بأن الإنسان ليس داخلاً ضمن سلسلة الحياة التي تجمع مخلوقات الأرض كونه يملك تلك الخصائص التي تجعله سيد جميع المخلوقات بل والمخلوق الوحيد القادر على إفنائها إن شاء.
إذن ما هي وظيفة الإنسان؟!
يرى فهيم أن الإجابة على هذا السؤال يكمن في شيء واحد وهو أن للإنسان وظيفة تختلف عن بقية مخلوقات الأرض وهذه الوظيفة لم تأت عبثاً بل ضمن نظام بديع لخالق هذا الكون.
ووظيفة الإنسان هذه لا يمكن لأي مخلوق أرضي أن يحصل عليها سواء بادعاء التطور أو بالجبر.. إنه جدار الأمانة!!
هذا الجدار الذي يقف كالسد الشامخ أمام أي مخلوق آخر هو قبول الإنسان عرض الأمانة، الذي يعني أن يمنح الخالق الإنسان العقل والإرادة وحرية الاختيار والتصرف وجميع الإمكانيات النفسية والبيولوجية (أحسن تقويم ) مقابل الامتحان الذي سيكلفه به ربه.. وجاء الامتحان لاحقاً، في شكل وظيفة خلافة الله في الأرض.
هو جدار غير قابل للانكسار، مما يعني استحالة تحول أو تحويل أي مخلوق ليس إلى إنسان فحسب بل إلى كائن آخر يملك العقل والإرادة وحرية الاختيار والتصرف.
فلا تستطيع إيدولوجية دارون أو أي إيدولوجية أخرى أن تنزع جدار الأمانة الذي يفصل بين الإنسان وباقي المخلوقات، لأنها لا تورث بيولوجياً بل تعبر عن المشيئة الإلهية التي ارتآها للمخلوق البشري.
وتسير عربة فهيم عابرة المسافات وقاطعة السهول والهضاب والتلال وهي تسابق الريح وذنبها الوحيد أنها تلوث هواء هذه الطبيعة العليل.